فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{إِذا جاءك الْمُنافِقُون قالوا نشْهدُ إِنّك لرسُولُ اللّهِ واللّهُ يعْلمُ إِنّك لرسُولُهُ}
الدرس الأول: 1- 4 سبب تكذيب المنافقين وتلاعبهم وصدهم عن سبيل الله وتصوير جبنهم:
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله. وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم، ويخدعون المسلمين فيهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون}..
فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان، لا يقصدون بها وجه الحق، إنما يقولونها للتقية، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين. فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها، ويداروا أنفسهم بقولها. ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة: {والله يعلم إنك لرسوله}.. {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}.
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه. فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين. ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير!
{اتخذوا أيمانهم جنة}.. وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم، أو عرف عنهم كيد أو تدبير، أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين. كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم، فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها، ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم. {فصدوا عن سبيل الله}.. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون}.. وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل!؟
ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة، وأيمان مكذوبة خادعة، وصد عن سبيل الله وسوء عمل.. يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان، واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام:
{ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}..
فهم عرفوا الإيمان إذن، ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر. وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه، أو تذوق، أو حياة. وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف، ويطلع على التصور الإيماني للوجود، وعلى التذوق الإيماني للحياة، ويتنفس في جو الإيمان الذكي، ويحيا في نور الإيمان الوضيء، ويتفيأ ظلال الإيمان الندية.. ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود، الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد! {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}..
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود. بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}..
فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون.. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة.. {تسمع لقولهم كأنهم خشب}.. ولكنها ليست خشبا فحسب. إنما هي {خشب مسندة}.. لا حركة لها، ملطوعة بجانب الجدار!
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم:
{يحسبون كل صيحة عليهم}..
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء. وهم يخشون في كل.
{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجْسامُهُمْ وإِن يقولوا تسْمعْ لِقولهِمْ كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ هُمُ الْعدُوُّ فاحْذرْهُمْ قاتلهُمُ اللّهُ أنّى يُؤْفكُون (4) وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ لوّوْا رُؤُوسهُمْ ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُم مُّسْتكْبِرُون (5) سواء عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ لن يغْفِر اللّهُ لهُمْ إِنّ اللّه لا يهْدِي الْقوْم الْفاسِقِين (6) هُمُ الّذِين يقولون لا تُنفِقُوا على منْ عِند رسُولِ اللّهِ حتّى ينفضُّوا ولِلّهِ خزائِنُ السّماواتِ والْأرْضِ ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يفْقهُون (7)}
لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف. والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم؛ يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف، يحسبونه يطلبهم، وقد عرف حقيقة أمرهم!!
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان.. إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال!
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين:
{هم العدو فاحذرهم}.. هم العدو الحقيقي. العدو الكامن داخل المعسكر، المختبئ في الصف. وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح. {فاحذرهم}.. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤمر هنا بقتلهم، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم- كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل-..
{قاتلهم الله أنى يؤفكون}..
فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا. والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه.. وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف.
الدرس الثاني: 5- 8 تآمر المنافقين على المسلمين وقصة ابن أبي في الفتنة:
ويستطرد السياق في وصف تصرفاتهم الدالة على دخل قلوبهم، وتبييتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكذبهم عند المواجهة.. وهي مجموعة من الصفات اشتهر بها المنافقون: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}..
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول: وفصل ابن إسحاق هذا في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع.. ماء لهم.. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء- بعد الغزوة- وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه. يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث. فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم. فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب. فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل». وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه- فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفا عظيما. فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدبا على ابن أبي بن سلول ودفعا عنه.
قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال «عبد الله بن أبي» قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟» قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا!
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس. ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله ابن أبي.
قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبي ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن ارقم، ثم قال: «هذا الذي أو في لله بأذنه».. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه.
قال ابن إسحاق. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه. فإن كنت لابد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته».. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.. وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك؟ ويلك! فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل! فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة، فشكا إليهعبد الله بن أبي ابنه. فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن..
وننظر مرة إلى الأحداث، ومرة إلى الرجال، ومرة إلى النص القرآني، فنجدنا مع السيرة، ومع المنهج التربوي الإلهي، ومع قدر الله العجيب في تصريف الأمور.. فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون؛ ويعيشون فيه- في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة عشر سنوات. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرجهم من الصف، ولا يعرفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته. وإن كان يعرفهم في لحن القول، بالالتواء والمداورة. ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات. ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس. فالقلوب له وحده، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه، فأما الناس فلهم ظاهر الأمر؛ كي لا يأخذوا الناس بالظنة، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته، فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه. إنما عرفهم وعرف بهم واحدا فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- ولم يشع ذلك بين المسلمين. حتى إن عمر- رضي الله عنه- كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له: يا عمر لست منهم. ولا يزيد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبدا. فكان أصحابه يعرفون عندما يرون الرسول لا يصلي على ميت. فلما قبض صلى الله عليه وسلم كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم. وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر. فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئا!
وهكذا كانت تجري الأحداث- كما يرسمها القدر- لحكمتها ولغايتها، للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب.
{يقولون لئِن رّجعْنا إِلى الْمدِينةِ ليُخْرِجنّ الْأعزُّ مِنْها الْأذلّ ولِلّهِ الْعِزّةُ ولِرسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يعْلمُون (8) يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عن ذِكْرِ اللّهِ ومن يفْعلْ ذلِك فأُوْلئِك هُمُ الْخاسِرُون (9) وأنفِقُوا مِن مّا رزقْناكُم مِّن قبْلِ أن يأْتِي أحدكُمُ الْموْتُ فيقول ربِّ لوْلا أخّرْتنِي إِلى أجلٍ قرِيبٍ فأصّدّق وأكُن مِّن الصّالِحِين (10) ولن يُؤخِّر اللّهُ نفْسا إِذا جاء أجلُها واللّهُ خبِيرٌ بِما تعْملُون (11)}
وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة..
هذا عبد الله بن أبي بن سلول. يعيش بين المسلمين. قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول. ولكن الله لا يهدي قلبه للإيمان، لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة. وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير، تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكا على الأوس والخزرج، بسبب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى. الذي تواجهه دلائله من كل جانب. وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب!
وهذا ابنه عبد الله- رضي الله عنه وأرضاه- نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع. يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه. ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف. ويسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل أباه هذا. فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة. إنه يحب الإسلام، ويحب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه. ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه. وهو يخشى أن تخونه نفسه، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية، وهتاف الثأر.. وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه. فيطلب منه إن كان لابد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه. وهو لابد مطيع. وهو يأتيه برأسه. كي لا يتولى ذلك غيره، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض. فيقتله. فيقتل مؤمنا بكافر. فيدخل النار..
وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم. روعة الإيمان في قلب إنسان، وهو يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية- أن يقتل أباه- وهو صادق النية فيما يعرض. يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق.. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر، فيدخل النار.. وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول: (فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني). وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج؛ لا بأن يرد أمره أو يغيره- فالأمر مطاع والإشارة نافذة- ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه!
والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا..» ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟».
ثم تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم.. وأمره بالسير في غير أوان، ومتابعة السير حتى الإعياء، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين: يا للأنصار! يا للمهاجين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان.. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسيد بن حضير، وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة، واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام!
وأخيرا نقف أمام المشهد الرائع الأخير. مشهد الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبي. وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل. تصديقا لمقاله هو: {ليخرجن الأعز منها الأذل}. ليعلم أن رسول الله هو الأعز. وأنه هو الأذل. ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له. فيدخلها بإذنه. ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل. في نفس الواقعة. وفي ذات الأوان.
ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال. رفعهم إلى هذه القمة، وهم بعد بشر، بهم ضعف البشر، وفيهم عواطف البشر، وخوالج البشر. وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة، حين يدركها الناس على حقيقتها، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.
ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث:
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}..
فهم يفعلون الفعلة، ويطلقون القولة. فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأيمان يتخذونها جنة. فإذا قال لهم قائل: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، وهم في أمن من مواجهته، لووا رؤوسهم ترفعا واستكبارا! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة. وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام. ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة؛ فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة. حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان!
ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قضاه الله في شأنهم على كل حال. وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء الله:
{سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}..
ويحكي طرفا من فسقهم، الذي استوجب قضاء الله فيهم:
{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا}..
وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين!
وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع!
وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين، ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة!
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق..
وهكذا يتوا في على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان، من قديم الزمان، إلى هذا الزمان.. ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية:
{ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون}..
ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين!
وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم. ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع. والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه. فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق. وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق! وهو أكرم أن يكل عباده- ولو كانوا أعداءه- إلى ما يعجزون عنه البتة. فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء!
ثم قولتهم الأخيرة:
{يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}..
وقد رأينا كيف حقق ذلك عبد الله بن عبد الله بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز!
{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}..
ويضم الله- سبحانه- رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله- سبحانه- رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء. وهذا هو الصف العزيز!
وصدق الله. فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان. فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة..
{ولكن المنافقين لا يعلمون}..
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟
الدرس الثالث: 9- 11 تحذير المؤمنين من التثاقل والتلهي عن ذكر الله والدعوة للإنفاق:
لهؤلاء المؤمنين الذين أوقفهم الله في صفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عزتهم من عزته يوجه النداء الأخير في السورة، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء:
«يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله. ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، والله خبير بما تعملون»
والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان. ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه عن ذكر الله ليتم له هذا الاتصال {فأولئك هم الخاسرون}.. وأول ما يخسرونه هو هذه السمة. سمة الإنسان. فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا. ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء. مهما يملك من مال ومن أولاد.
ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة.. وأنفقوا مما رزقناكم.. فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم. فهو من عند الله الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق.
{من قبل أن يأتي أحدكم الموت...}.. فيترك كل شيء وراءه لغيره؛ وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران.
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين! وأنى له هذا؟: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها}؟
وأنى له ما يتقدم به؟ {والله خبير بما تعملون}؟
إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة. في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين. ولواذ المؤمنين بصف الله الذي يقيهم كيد المنافقين.. فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان، وألا يغفلوا عن ذكر الله. وهو مصدر الأمان.. وهكذا يربي الله المسلمين بهذا القرآن الكريم.. اهـ.